"عشانك يا خضر ...."
لقد أمعنت نورا في العبث بفطرة ذلك الفتى الساذج إلى حد أذهلته عن أمسه وحاضره وكيانه في مستقبل الأيام إنه ليسأل نفسه وهو يقبض بيديه على حديد السور يرقب موكب السقاية ألف سؤال وسؤال ... لماذا تناديه (نورا) في مناسبة وفى غير مناسبة لتروى له طرفا من حياتها في المدينة وكيف أن الكثيرين من أهل الثراء يتوددون إليها طامعين في مالها وجمالها وفى مجالسها وكيف أنها تضن بقلبها أن يعبث به الطامعون وأنها لن تسلم قلبها وأموالها إلا لمن تشعر أنه يريدها لشخصها حتى ولو كان أحد عمال أرضها الأجراء ....
وذلك الذي حدث يوم أن كان يقلم أشجار الورد في الحديقة ولم يكن له بهذا الفن سابق علم فكان أن نفذت شوكة طويلة في راحة يده وتصادف أن (نورا) كانت تمر بالقرب منه فهالها أن ترى الدماء تنزف منه وأخذته مسرعة إلى جناحها الخاص حيث أجرت له الضمادات وكانت ذراعه عارية إلا من قميص مهلهل فأخذته (نورا) بعد أن أسعفته تمسح بيديها على عضلاته وفى عينيها بريق عجيب لم يكن ليراه طيلة حياته فقد عودته النسوة في القرية ألا يرى بريق عيونهن من فرط الخجل أو من فرط استحيائهن ..
لقد لمست بيديها بلطف أول الأمر ثم بعنف وهى تقترب منه لتغسل له الجرح فأدمت طهارته وروحه بتلك الأنفاس الحارة التي انبعثت منها مختلطة بذلك العطر القوى الذي شل من فتانا كل حراك وعندما قام لينصرف وهو يشكر لها صنيعها في كلمات لاهثة منقطعة ويقبل يدها ما راعه إلا أن همست في أذنه بصوت حالم انبطح بعنف على وجدانه البريء : انتظرني يوم الخميس الجاى يا خضر .. سأرجع من مصر عشانك مخصوص .
هل كان وهمه يطلب صراحة أكثر من هذا ؟ وهل كان شيطان الشك يريد منها وعدا أفضل من هذا ؟ لا لم يعد هنا وهم ولا شك وإنما يقين يهز كيانه بأقوى مما يفعل الشك ، قد عاش يومين بعد هذا اللقاء محموما مخدرا في حلم اشتهى ألا يفيق منه كان يذكر اللقاء ليسترجعه وليردد قولها كلمة كلمة إن نبرات صوتها لا تزال تعيش في أذنيه واضحة شجية تطارده وهو ينام وتنسه وهو يعمل في خدمة حديقتها التي ينقض عليه فيها شهر بعد .
أيتها المشاعر البشرية بل أيتها العواطف الإنسانية لقد كان فكره في أيامه الأولى يدور حول الجنيهات الخمسة التي طالما منى نفسه بأنه سيتناولها متماسكة في ورقة واحدة كان يراها في أيدي تجار القطن وكانت أنامله تأكله ليملس عليها ويرفعها في احترام إلى شفتيه ليقبلها في لهف .. كم من ساعات انصرمت عليه وهو يحرك هذه الأنامل وكأنما تمر على صفحة تلك الورقة العريضة التي شاعت فيها الحمرة كما تشيع في وجنتي سيدته الرشيقة الباسمة دائما ... كان فكره يدور حول الجنيهات الخمسة في سذاجة وبراءة ولكنه أصبح اليوم ولا هم له أو لفكره ولا لخياله سوى سيدته نفسها .. سيدته وسيدته في الحل ..إن هواتف نفسه تتصارع بين رغبة جامحة طارئة وبين ما نشأت عليه فطرته الساذجة من اعتراف بالجميل ولكنها سيدته أيضا إنها هي التي شجعته فتشجعت غرائزه وهى التي كشفت بعطرها وأنفاسها عما كان يكتبه
إن (خضرا ) يعانى صراعا لم يكن في حسبانه بين ما حرم الله في كتابه وما أيقظته فيه سيدته من هواتف ..
ظل خضر في موقفه هذا على السور تائها شاردا ولم يحس أن القوم قد انصرفوا بأنعامهم عن الحوض الكبير وأن الليل قد زحف على القرية ولم يدر إلا والرجفة تأـخذه .. إن اليوم هو الخميس الذي واعدته عليه سيدته فلا بد أن يذهب ليعد نفسه للقاءها
وفى خطوات وئيدة توجه ( خضر ) إلى طرف الحديقة حيث يوجد مسكنه وما أن فتح غرفته حتى وقف كالمصعوق لقد وجد (نورا) في غلالة شفافة تلف جسمها وهى تفضحه .... وراعته المفاجأة فتسمر في مكانه و(نورا) تناديه : نادته بصوتها الذي سحره ونادته بضحكها الذي أذهله ونادته بذلك البريق الذي رآه في عينيها وهى تضمد جراحه .. ولكن (خضرا) ظل في في مكانه
وعصفت الرغبة ب (نورا) فأرسلت ضحكة عالية لم تكن كضحكاتها السابقة وإنما كان فيها صراخ الشيطان وألقت بجسدها بين أحضانه ... وصرخ الوحش في دماء (خضر) فلم يشعر إلا وهو يتلقف ذلك العود الفائر الدافىء بين ساعديه وأطبقهما في عنف وكأنما يريد أن يعتصر كل ما في العود .. وصرخت (نورا) من الألم . فارتد خضر في ذهول ليرى على الأرض حلية سقطت من صدر (نورا) بعد أن أدمته ..
ووسط ذلك الليل البهيم انشق الهدوء والسلام في طرقات القرية على صيحات (خضر) المذعورة وفى يده شيء يطبق عليه ... كان كتاب الله في حلية من ذهب !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق